سورة الرعد - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الرعد)


        


اختلف المتأولون فيمن عنى بقوله: {الذين آتيناهم الكتاب} فقال ابن زيد: عنى به من آمن من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وشبهه.
قال القاضي أبو محمد: والمعنى: مدحهم بأنهم لشدة إيمانهم يسرون بجميع ما يرد على النبي عليه السلام من زيادات الشرع.
وقال قتادة: عنى به جميع المؤمنين، و{الكتاب} هو القرآن، و{بما أنزل إليك} يراد به، جميع الشرع. وقالت فرقة: المراد ب {الذين آتيناهم الكتاب} اليهود والنصارى، وذلك أنهم لهم فرح بما ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم من تصديق شرائعهم وذكر أوائلهم.
قال القاضي أبو محمد: ويضعف هذا التأويل بأن همهم به أكثر من فرحهم، ويضعف أيضاً بأن اليهود والنصارى ينكرون بعضه. وقد فرق الله في هذه الآية بين الذين ينكرون بعضه وبين الذين آتيناهم الكتاب.
و {الأحزاب} قال مجاهد: هم اليهود والنصارى والمجوس، وقالت فرقة: هم أحزاب الجاهلية من العرب. وأمره الله تعالى أن يطرح اختلافهم ويصدع بأنه إنما أمر بعبادة الله وترك الإشراك، والدعاء إليه، واعتقاد المآب إليه وهو الرجوع عند البعث يوم القيامة.
وقوله: {وكذلك} المعنى: كما يسرنا هؤلاء للفرح، وهؤلاء لإنكار البعض، كذلك {أنزلناه حكماً عربياً}، ويحتمل المعنى: والمؤمنون آتيناهموه يفرحون به لفهمهم به وسرعة تلقيهم.
ثم عدد النعمة بقوله: {كذلك جعلناه} أي سهلنا عليهم في ذلك وتفضلنا.
و {حكماً} نصب على الحال، والحكم هو ما تضمنه القرآن من المعاني، وجعله {عربياً} لما كانت العبارة عنه بالعربية.
ثم خاطب النبي عليه السلام محذراً من اتباع أهواء هذه الفرق الضالة، والخطاب لمحمد عليه السلام، وهو بالمعنى بتناول المؤمنين إلى يوم القيامة.
ووقف ابن كثير وحده على واقي وهادي ووالي بالياء. قال أبو علي: والجمهور يقفون بغير ياء، وهو الوجه. وباقي الآية بين.
وقوله: {ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك} الآية. في صدر هذه الآية تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم ورد على المقترحين من قريش بالملائكة المتعجبين من بعثة الله بشراً رسولاً. فالمعنى: أن بعثك يا محمد ليس ببدع فقد تقدم هذا في الأمم. ثم جاء قوله: {وما كان لرسول} الآية، لفظه لفظ النهي والزجر، والمقصود به إنما هو النفي المحض، لكنه نفي تأكد بهذه العبارة، ومتى كانت هذه العبارة عن أمر واقع تحت قدرة المنهي فهي زجر، ومتى لم يقع ذلك تحت قدرته فهو نفي محض مؤكد، و{بإذن الله} معناه: إلا أن يأذن الله في ذلك.
وقوله: {لكل أجل كتاب} لفظ عام في جميع الأشياء التي لها آجال، وذلك أنه ليس كائن منها إلا وله أجل في بدئه أو في خاتمته.
وكل أجل مكتوب محصور، فأخبر تعالى عن كتبه الآجال التي للأشياء عامة، وقال الضحاك والفراء: المعنى: لكل كتاب أجل.
قال القاضي أبو محمد: وهذا العكس غير لازم ولا وجه له، إذ المعنى تام في ترتيب القرآن، بل يمكن هدم قولهما بأن الأشياء التي كتبها الله تعالى أزلية باقية كتنعيم أهل الجنة وغيره يوجد كتابها لا أجل له.
وقوله: {يمحو الله ما يشاء ويثبت} قرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي {ويثبّت} بشد الباء. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم {ويثبت} بتخفيفها.
وتخبط الناس في معنى هذه الألفاظ، والذي يتخلص به مشكلها: أن نعتقد أن الأشياء التي قدرها الله تعالى في الأزل وعلمها بحال ما لا يصح فيها محو ولا تبديل، وهي التي ثبتت في {أم الكتاب} وسبق بها القضاء، وهذا مروي عن ابن عباس وغيره من أهل العلم، وأما الأشياء التي قد أخبر الله تعالى أنه يبدل فيها وينقل كعفو الذنوب بعد تقريرها، وكنسخ آية بعد تلاوتها واستقرار حكمها-ففيها يقع المحو والتثبيت فيما يقيده الحفظة ونحو ذلك، وأما إذا رد الأمر للقضاء والقدر فقد محا الله ما محا وثبت ما ثبت. وجاءت العبارة مستقلة بمجيء الحوادث، وهذه الأمور فيما يستأنف من الزمان فينتظر البشر ما يمحو أو ما يثبت وبحسب ذلك خوفهم ورجاؤهم ودعاؤهم.
وقالت فرقة- منها الحسن- هي في آجال بني آدم، وذلك أن الله تعالى في ليلة القدر، وقيل:- في ليلة نصف شعبان- يكتب آجال الموتى فيمحى ناس من ديوان الأحياء ويثبتون في ديوان الموتى. وقال قيس بن عباد: العاشر من رجب هو يوم {يمحو الله ما يشاء ويثبت}.
قال القاضي أبو محمد: وهذا التخصيص في الآجال أو غيرها لا معنى له، وإنما يحسن من الأقوال هنا ما كان عاماً في جميع الأشياء، فمن ذلك أن يكون معنى الآية أن الله تعالى يغير الأمور على أحوالها، أعني ما من شأنه أن يغير-على ما قدمناه- فيمحوه من تلك الحالة ويثبته في التي نقله إليها. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن عبد الله بن مسعود أنهما كانا يقولان في دعائهما: اللهم إن كنت كتبتنا في ديوان الشقاوة فامحنا وأثبتنا في ديوان السعادة، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت.
قال القاضي أبو محمد: وهذا دعاء في غفران الذنوب وعلى جهة انجزع منها. أي اللهم إن كنا شقينا بمعصيتك وكتب علينا ذنوب وشقاوة بها فامحها عنا بالمغفرة، وفي لفظ عمر في بعض الروايات بعض من هذا، ولم يكن دعاؤهما البتة في تبديل سابق القضاء ولا يتأول عليهما ذلك.
وقيل: إن هذه الآية نزلت لأن قريشاً لما سمعت قول الله تعالى: {وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله}، قال: ليس لمحمد في هذا الأمر قدرة ولا حظ، فنزلت {يمحو الله ما يشاء ويثبت} أي ربما أذن الله من ذلك فيما تكرهون بعد أن لم يكن يأذن.
وحكى الطبري عن ابن عباس أنه قال: معنى الآية {يمحو الله ما يشاء ويثبت} من أمور عباده إلا السعادة والشقاوة والآجال فإنه لا محو فيها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا نحو ما أحلناه أولاً في الآية.
وحكي عن فرقة أنها قالت: {يمحو الله ما يشاء ويثبت} من كتاب حاشى أمر الكتاب الذي عنده الذي لا يغير منه شيئاً. وقالت فرقة معناه: يمحو كل ما يشاء ويثبت كل ما أراد، ونحو هذه الأقوال التي هي سهلة المعارضة.
وأسند الطبري عن إبراهيم النخعي أن كعباً قال لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين لولا آية في كتاب الله لأنبأتك بما هو كائن إلى يوم القيامة. قال: وما هي؟ قال: {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب}. وذكر أبو المعالي في التلخيص: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو الذي قال هذه المقالة المذكورة عن كعب.
قال القاضي أبو محمد: وذلك عندي لا يصح عن علي.
واختلفت أيضاً عبارة المفسرين في تفسير {أم الكتاب} فقال ابن عباس: هو الذكر، وقال كعب: هو علم الله ما هو خالق، وما خلقه عاملون.
قال القاضي أبو محمد: وأصوب ما يفسر به {أم الكتاب} أنه كتاب الأمور المجزومة التي قد سبق القضاء فيها بما هو كائن وسبق ألا تبدل، ويبقى المحو والتثبيت في الأمور التي سبق في القضاء أن تبدل وتمحى وتثبت- قال نحوه قتادة- وقالت فرقة: معنى {أم الكتاب} الحلال والحرام- وهذا قول الحسن بن أبي الحسن.


{إن} شرط دخلت عليها {ما} مؤكدة، وهي قبل الفعل فصارت في ذلك بمنزلة اللام المؤكدة في القسم التي تكون قبل الفعل في قولك: والله لنخرجن، فلذلك يحسن أن تدخل النون الثقيلة في قولك: {نرينك} لحلولها هنا محل اللام هنالك، ولو لم تدخل {ما} لما جاز ذلك إلا في الشعر، وخص البعض بالذكر إذ مفهوم أن الأعمار تقصر عن إدراك جميع ما تأتي به الأقدار مما توعد به الكفار. وكذلك أعطي الوجود، ألا ترى أن أكثر الفتوح إنما كان بعد النبي عليه السلام و{أو} عاطفة. وقوله: {فإنما} جواب الشرط.
ومعنى الآية: إن نبقك يا محمد لترى أو نتوفينك، فعلى كلا الوجهين إنما يلزمك البلاغ فقط.
وقوله: {نعدهم} محتمل أن يريد به المضار التي توعد بها الكفار، فأطلق فيها لفظة الوعد لما كانت تلك المضار معلومة مصرحاً بها، ويحتمل أن يريد الوعد لمحمد في إهلاك الكفرة، ثم أضاف الوعد إليهم لما كان في شأنهم.
والضمير في قوله: {يروا} عائد على كفار قريش وهم المتقدم ضميرهم في قوله: {نعدهم}.
وقوله: {نأتي} معناه بالقدرة والأمر، كما قال الله تعالى: {فأتى الله بنيانهم من القواعد} [النحل: 26] و{الأرض} يريد به اسم الجنس، وقيل: يريد أرض الكفار المذكورين.
قال القاضي أبو محمد: وهذا بحسب الاختلاف في قوله: {ننقصها من أطرافها}.
وقرأ الجمهور: {نَنقصها} وقرأ الضحاك {نُنقصها}.
وقوله: {من أطرافها} من قال: إنها أرض الكفار المذكورين- قال: معناه، ألم يروا أنا نأتي أرض هؤلاء بالفتح عليك فننقصها بما يدخل في دينك في القبائل، والبلاد المجاورة لهم، فما يؤمنهم أن نمكنك منهم أيضاً، كما فعلنا بمجاوريهم- قاله ابن عباس والضحاك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا بحسب الاختلاف في قوله: {ننقصها من أطرافها} القول لا يتأتى إلا بأن نقدر نزول هذه الآية بالمدينة، ومن قال: إن {الأرض} اسم جنس جعل الانتقاص من الأطراف بتخريب العمران الذي يحله الله بالكفرة- هذا قول ابن عباس أيضاً ومجاهد.
وقالت فرقة: الانتقاص هو بموت البشر وهلاك الثمرات ونقص البركة، قاله ابن عباس أيضاً والشعبي وعكرمة وقتادة. وقالت فرقة: الانتقاص هو بموت العلماء والأخيار- قال ذلك ابن عباس أيضاً ومجاهد- وكل ما ذكر يدخل في لفظ الآية.
و الطرف من كل شيء خياره، ومنه قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: العلوم أودية في أي واد أخذت منها حسرت فخذوا من كل شيء طرفاً. يعني خياراً.
وجملة معنى هذه الآية: الموعظة وضرب المثل، أي ألم يروا فيقع منهم اتعاظ.
وأليق ما يقصد لفظ الآية هو تنقص الأرض بالفتوح على محمد.
وقوله: {لا معقب} أي لا راد ولا مناقض يتعقب أحكامه، أي ينظر في أعقابها أمصيبة هي أم لا؟ وسرعة حساب الله واجبة لأنها بالإحاطة ليست بعدد.
و {المكر}: ما يتمرس بالإنسان ويسعى عليه- علم بذلك أو لم يعلم- فوصف الله تعالى الأمم التي سعت على أنبيائها- كما فعلت قريش بمحمد صلى الله عليه وسلم- ب {المكر}.
وقوله: {فلله المكر جميعاً} أي العقوبات التي أحلها بهم. وسماها مكراً على عرف تسمية المعاقبة باسم الذنب، كقوله تعالى: {الله يستهزئ بهم} [البقرة: 15] ونحو هذا.
وفي قوله تعالى: {يعلم ما تكسب مل نفس} تنبيه وتحذير في طي إخبار ثم توعدهم تعالى بقوله: {وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار}.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو {الكافر} بالإفراد، وهو اسم الجنس، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي {الكفار}، وقرأ عبد الله بن مسعود {الكافرون}، وقرأ أبي بن كعب: {الذين كفروا}. وتقدم القول في {عقبى الدار} قبل هذا.
وقوله تعالى: {ويقول الذين كفروا} الآية، المعنى: ويكذبك يا محمد هؤلاء الكفرة ويقولون: لست مرسلاً من الله وإنما أنت مدع، قل لهم: {كفى بالله شهيداً}.
و {بالله} في موضع رفع، التقدير: كفى الله. وشهيد بمعنى: شاهد، وقوله: {ومن عنده علم الكتاب} قيل: يريد اليهود والنصارى الذين عندهم الكتب الناطقة برفض الأصنام وتوحيد الله تعالى، وقال قتادة: يريد من آمن منهم كعبد الله بن سلام وتميم الداري وسلمان الفارسي، الذين يشهدون بتصديق محمد، وقال مجاهد: يريد عبد الله بن سلام خاصة، قال هو: فيّ نزلت {ومن عنده علم الكتاب}.
قال القاضي أبو محمد: وهذا القولان الأخيران لا يستقيمان إلا أن تكون الآية مدنية، والجمهور على أنها مكية- قاله سعيد بن جبير، وقال: لا يصح أن تكون الآية في ابن سلام لكونها مكية وكان يقرأ: {ومِن عنده عُلم الكتاب}.
وقيل: يريد جنياً معروفاً، حكاه النقاش، وهو قول شاذ ضعيف. وقيل: يريد الله تعالى، كأنه استشهد بالله تعالى، ثم ذكره بهذه الألفاظ التي تتضمن صفة تعظيم. ويعترض هذا القول بأن فيه عطف الصفة على الموصوف، وذلك لا يجوز وإنما تعطف الصفات بعضها على بعض. ويحتمل أن تكون في موضع رفع بالابتداء، والخبر محذوف تقديره: أعدل وأمضى قولاً، ونحو هذا مما يدل عليه لفظ {شهيداً} ويراد بذلك الله تعالى.
وقرأ علي بن أبي طالب وأبي بن كعب وابن عباس وابن جبير وعكرمة ومجاهد والضحاك والحكم وغيرهم {ومِن عندِه علم الكتاب} بكسر الميم من من وخفض الدال، قال أبو الفتح: ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأ علي بن أبي طالب أيضاً والحسن وابن السميفع {ومِن عنده عُلم الكتابُ} بكسر الميم من من وضم العين من علم على أنه مفعول لم يسم فاعله، ورفع الكتاب، وهذه القراءات يراد فيها الله تعالى، لا يحتمل لفظها غير ذلك. والله المعين برحمته.

1 | 2 | 3 | 4 | 5